كل الاطفال ملائكة. لكن “غدي” طفل مختلف. إنه ملاك حقيقي بأجنحة. احسن جورج خبار الملتزم القضايا الانسانية والذي عوّدنا الافكار المبتكرة رغم بساطتها، في تقديم عمل انساني وعائلي واجتماعي هادف ونظيف ومؤثر ومؤلم ومضحك في الوقت عينه.
أحسن خباز، وأحسن معه المخرج أمين درة (مخرج مسلسل “شنكبوت” على الويب) الذي نجح في ترجمة رؤية خباز من خلال مشهدية تنبض فيها الصورة حياة ودفئاً وشاعرية وغنى، والاطارات سحراً ساعدت في ابرازه منطقة البترون حيث تم التصوير، وادارة جيدة جداً للممثلين الذين احسنوا جميعهم في تجسيد شخصيات ملونة بواقعيتها وقساوتها وطيبتها وطرافتها. ورغم عرضه واقع الايمان والانسياق الشعبي وراء العجائب بشكل غير منطقي، ومروره على مسألة الطائفية من خلال ممانعة الزواج المختلط، “غدي” ليس فيلماً عن الدين، بل عن الاختلاف بكل انواعه، من التشوهات الجينية بشكل اساسي، مروراً بالمثلية الجنسية والتهميش الاجتماعي (الفتى الذي يتأتئ، مجنون الحي، العامل الاجنبي، بائعة الهوى، المرأة العاقر، المرأة المهملة والمنسية التي تتآكلها المرارة). كل هذا الاختلاف حاكه سيناريو خباز بذكاء وانسيابية، مستخدماً قطباً فيها من فانتازيا عالم روبرتو بينيني ومن بساطة عالم الرحابنة ونظافته وطيبة شخصياته وكذبة راجح التي يصدقها الجميع ويمشون فيها حتى بعد انكشافها، مع الاشارة إلى أن فيلمه غير مستوحى منهما ولا يقلدهما. إنه بجدارة عمل مختلف مثل بطليه، الوالد لابا استاذ الموسيقى الذي كان “يتأتئ” في صغره، والابن غدي (إيمانويل خير الله من اولاد جمعية Sesobel) الذي يعاني تشوهات جينية Trisomie، مما يجعله يطلق اصواتاً تزعج اهل حي المشكّل، فيصممون على توقيع عريضة للبلدية من اجل ارساله الى مركز خاص. في “غدي” حاول جورج خباز حماية ابنه من الحرب التي يشنها عليه المجتمع الرافض كل أنواع الاختلاف، فابتكر “لعبة” أو فانتازيا، ستوهم أهل الحي بأن ابنه ملاك من عند الله يثور بسبب اخطاء الناس ومهمته مساعدتهم على التوبة وعمل الخير. وفي المقابل هو مستعد لتلبية طلباتهم كافة، من خلال فريق عمل من مختلفي الحي يساعدون الوالد في مهمته. المضمون رسالة جميلة ببساطتها وانسانيتها وقلة فذلكتها، وقد تجسّدت في نص سلس وسهل ممتنع بات علامة جورج خباز الفارقة. لكن السينما غير المسرح، والفيض اللفظي والكتابي الذي يتألق به على المسرح، يستحسن تخفيفه في السينما، وخصوصاً ان فيلمه عانى بعض الثرثرة والتطويل وكان يمكن اختصار صوته كراوٍ للاحداث وترك الصورة تخبرنا بما يحدث. الصورة تنقلنا الى حي مسيحي يتعبّد سكانه لمار الياس، وقد شكل كادراً سينمائياً ساحرا بخصوصيته التي تذكرنا بالقرية اللبنانية من ناحية تداخل بيوته ودكاكينه وسكانه ودخول جيرانه على قصص بعضهم البعض، مع كامل ثرثراتهم ومشكلاتهم وغشهم وكلها تنضوي تحت مظلة البساطة والطيبة. هذه الشخصيات جاءت محبوكة بتناغم كبير مع القصة، فبدت بواقعيتها وطبيعيتها جزءاً لا يتجزأ من تلك اللوحة السينمائية المتداخلة الالوان والتقطيعات. الممثلون بارعون ومعظمهم اسماء كبيرة بالموقع الفني، نذكر منهم الى جورج خباز بالشخصية الطيبة والمحببة والطريفة والمؤثرة المعتادة، القدير انطوان ملتقى الذي اغنى الفيلم بحضوره القصير (4 مشاهد فقط) رغم ادائه المسرحي، وكميل سلامة المقنع بدور الحلاق الغشاش والحربوق، وكريستين شويري التي تميّزت باداء شخصية صوفي بائعة الهوى بطبيعية لا تكلف او تصنع فيها. اما القبعة فنرفعها لمنى طايع التي اثبتت انها ليست فقط كاتبة كبيرة، بل ممثلة مخيفة بقدرتها على تقديم اصعب الادوار المعجونة بالقسوة والمرارة والاحتدام العاطفي من دون التوقف عند الشكل. وكانت طايع قد جسدت بشكل باهر شخصية تقلا المرأة المسيحية التي اهملت نفسها ونسيت انها امرأة مذ هاجر شقيقها الى البرازيل بعدما منعها من الزواج بحسن المسلم (يؤدي دور حسن الناقد السينمائي اميل شاهين).